اعتاد الإنسان على عدِّ الأرض كوكباً غنياً جداً، وكنزاً لا ينضب
معينه، أعطى وسيعطي إلى الأبد كل ما هو مطلوب من الطاقة والمواد والطعام.
وكان
العالم المحيط بالإنسان يتحمل، عندما لم تكن البشرية مسلحة بالوسائل
والتقنيات الجبارة القوية، وقد زال هذا الوهم الآن، وحلـَّت أوقات أخرى،
وازداد تعداد بني الإنسان المجهزين والمسلحين بمعدات وتقنيات قوية إلى
درجة أنه بمقدورها أن تأخذ من الطبيعة كميات هائلة من المواد العضوية وغير
العضوية، على نحو أثر على كل مكونات الطبيعة من غابات ومياه وأتربة وهواء
أيضاً.
وكتب الأكاديمي ن. فيدورينكو (اعتقد البشر من قرن إلى آخر بأن
الطبيعة تستعيد ما تفقده بنفسها، لكن من الآثار العميقة للثورة العلمية
التكنولوجية المعاصرة أنه صار من غير الممكن عدُّ عملية إعادة تكوين
المادة الطبيعية مجرد عملية إعادة تكوين ذاتي، إذ يمكن الآن مقارنة تأثير
الإنسان على البيئة خلال فترة قصيرة بآثار العمليات الجيولوجية
والجيوكيميائية وغيرها من العمليات على نطاق العالم، التي جرت طوال ملايين
السنين).
ولتوضيح ذلك نورد ما يلي
إن احتراق مئة مليار طن من الفحم
الحجري والبترول والغاز والفحم النباتي... إلخ، يطلق في الوسط المحيط ما
لا يقل عن 3 مليارات طن من الرماد والهباب والدخان، الذي يندمج في الهواء
المحيط، ثم يترسب منه في التربة والمياه ما لا يقل عن 5,1 مليون طن من
الزرنيخ و2,1 مليون طن من الأنتيمون والزنك، اللذين لا يقلان في سمّيتهما
عن الزرنيخ، وتستهلك كمية الوقود المحترقة هذه أكثر من ستة مليارات طن من
الأكسجين في عملية الاحتراق.
وفي العالم المعاصر، يجري سنوياً خلط أكثر
من 3 تريليونات طن من الخامات المعدنية والأتربة ومعالجتها وتصنيعها، وقد
أفلح الإنسان فعلياً في تغيير تضاريس الطبيعة، كما أفلح حتى في تغيير
تركيبة القسم العلوي من القشرة الأرضية في مناطق كبيرة من العالم، وصارت
المدن الكبرى في يومنا هذا أشبه بالبراكين المتفجرة، لا بل أشد سوءاً،
نتيجة لما تطلقه المراكز الصناعية من حيث كمية الدخان والغازات والأبخرة
المتطايرة، التي تشكل سحابة سوداء سامة تعكر صفو السماء فوق قارات الكوكب،
وازدادت كمية ثاني أكسيد الكربون المقحمة في الوسط المحيط خلال القرن
العشرين عشرات المرات، وبلغت مليارات الأطنان.
وأكبر مثال ودليل على
ذلك هو ما أظهرته الأبحاث أن المدن الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية
تعاني نقصاً كبيراً في احتياجاتها من الأكسجين، وأن سكان المدن الألمانية،
نتيجة لتسمم الجو بالغازات العادمة، يحصلون على كمية من الطاقة الشمسية
أقل من المعدل بنسبة 30%، وعلى كمية من الأشعة فوق البنفسجية أقل بنسبة
90% عما هو في الظروف الاعتيادية سابقاً.
ويتندر الطيارون العاملون في
مجال الطيران المدني الأمريكي الداخلي بقولهم (من السهل الاستدلال والتعرف
على نيويورك في أي طقس كان، دون خريطة أو أجهزة استدلال، وذلك باستنشاق
رائحتها)، وليس في هذا أي مبالغة، ويروي الطيارون أيضاً أن سحابة رمادية
هائلة تخيم فوق مدينة نيويورك، وهم يرونها جيداً في أيام الصحو من مسافة
تبعد 150 ميلاً عن المدينة، وهذا ناجم طبعاً عما تنفثه المدينة في أجوائها
يومياً، إذ يبلغ ما تقذفه أكثر من 3500 طن من ثاني أسيد الكبريت و380 طناً
من الغبار و4800 طن من أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد
النيتروجين والكثير من المواد السامة الأخرى، وتعود هذه السحابة إلى الأرض
على شكل رواسب من السخام (السناج) بمعدل 4 أطنان لكل ميل مربع من المدينة.
وللعلم،
فإنه يموت سنوياً في مدينة نيويورك بسبب جملة الملوثات السامة المقحمة في
الغلاف الجوي أكثر من 10 آلاف إنسان، ويشكل هذا العدد أكثر من 12% من
مجموع الوفيات المسجلة في المدينة.
والولايات المتحدة الأمريكية تستهلك
من أكسجين الغلاف الجوي مقداراً أكبر كثيراً مما يسترجع منه على نحو طبيعي
فوق أراضيها، ولهذا فإن الأكاديمي ن. فيدورينكو يعلق على هذه الحالة
بالقول (معنى هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية تستنشق الآن احتياطي
الأكسجين العالمي الموجود في المناطق الأخرى من كرتنا الأرضية). واليوم،
وكما في قديم الزمان، ما زال الكثيرون يعتقدون أن العالم والطبيعة كنز لا
ينضب، رغم تحذيرات العلماء، التي تتردد بصوت عالٍ منذرة بأنه سيأتي يوم
تصبح في الطبيعة عاجزة عن احتمال الضغوط عليها، وأن الإنسان سيقضي على
نفسه بتغييره نواميس الطبيعة واستنزافه الوسط المحيط.